انتقل إلى المحتوى

هل يعرف الآخرون بوجودنا؟ شهادة لممرضة من الغوطة الشرقية المحاصرة في سوريا

من ويكي الأخبار

الثالث 20 فبراير 2018


شهادة من بيرين حسون، أم وممرضة من مدينة حرستا في منطقة الغوطة الشرقية المحاصرة حيث يشن النظام السوري وحلفاؤه حملة قصف مكثفة: ما زال النظام السوري وحلفاؤه يحاصرون منطقة الغوطة الشرقية، التي تسيطر عليها قوات مناوئة للنظام، منذ نهايات عام 2013.

حتى وقت كتابة هذه الشهادة، لقي أكثر من 120 شخصًا حتفهم بين 6 و8 شباط/ فبراير 2018، وشهد يوم 19 شباط/ فبراير مقتل أكثر من 110 أشخاص في يوم واحد. ويقدر عدد القتلى من المدنيين بأرقام أعلى من ذلك، مع بعض التقديرات التي وصلت إلى نحو 1000 من المدنيين في الأشهر الثلاث المنصرمة.

وتم ضرب بنى تحتية مدنية بكثافة، مع قصف أربع مستشفيات يوم 19 شباط/ فبراير.

وقال كريم شاهين، وهو طبيب في الغوطة الشرقية: متحدثًا إلى صحيفة الغارديان:

«النص الأصلي:نقف أمام مجزرة القرن الحادي والعشرين. إذا كانت مجزرة صربيا مجزرة عقد التسعينيات، وكانت مجازر حلبتشا وصبرا وشاتيلا مجازر عقد الثمانينيات، فإن مجزرة الغوطة هي مجزرة هذا القرن التي تجري الآن.»

قامت مرسيل شحوارو بتسجيل الشهادة للأصوات العالمية:

منذ شهر تقريبًا بدأ القصف يشتدّ، ونزلت مع عائلتي إلى الملجأ في حرستا. والملجأ عبارةٌ عن قبوٍ هو مساحةٌ غير مقسّمة إلى غرف، تقطن فيها خمسون عائلة، حوالي 170 امرأةً وطفلًا. خائفون وخائفات، جائعون وجائعات.

الشبابيك دُمِّرَت من كثرة القصف، برد برد برد، تشرّبت عظامنا البرد، ومهما حاولنا أن نشعر بالدفء فإننا لا ننجح، لقد أصبح البرد جزءًا منّا. ألبسُ خمس بلوزات وثلاثة بناطيل سويًا، وأختبئ تحت البطانية مع ابني، وأشعر بعد هذا كله بالبرد. ابني حسام، وعمره ثلاث سنوات، يكرّرُ داخل أذني: “أنا بردان أنا بردان أنا بردان”، فيبرد قلبي أكثر.

المياه وسخة جدًا، وليست لديّ حفاضات لابني، الحفاضة الواحدة سعرها 300 ليرة. أضعُ له قطعة قماشة “خرقة”، وأحيطها بكيس نايلون كان فيه البارحة ربطة خبز ثمنها بدوره 800 ليرة، والمياه بالكاد تكفينا نحن الأمهات لنغسل قطع القماش تلك، نغسلها في المكان نفسه الذي نجلي فيه ونغسل أيدينا ونشرب. أولادنا في ذاك القبو يعانون الربو والرَمَد، أن يمرض طفلٌ واحد فهذا يعني أن يمرض جميع الأطفال. أُسمّي كل ذلك “حياتنا الطبيعية” في ظل الحصار، ولكن القصف هو مأساتنا الثانية.

أعيش في “حارة الطبيّة”، وهي الحارة التي فيها المشفى الميداني، ولذلك فهي مستهدفة بشكل أكبر. أعملُ ممرضةً بالقرب من زوجي المسعف في النقطة الطبيّة، والقبو قريبٌ منها، ولذلك نضطرٌ أحيانًا لدى ازدياد أعداد الجرحى أن ننقل أصحاب الإصابات الخفيفة من النقطة الطبيّة إلى القبو غير المقسّم، فنسعف الأولاد المصابين على مرأى من أولادنا. ربما يكون ما نفعله خاطئًا، ولكن ليس في يدنا خيارات أخرى.

كيف تعيشين أمومتكِ وأنت تعيشين الخوف يوميًا؟ خوفكِ على ولدكِ وعلى زوجك، وخوفكِ من أن يواصل ولدكِ حياته دونكِ إن أصابكِ شيء؟ كيف تعيشين أمومتكِ وسؤال ابنكِ اليومي هو: “هل سنموت اليوم؟ لماذا يقصفوننا؟”. كيف تعيشين أمومتكِ وأنتِ لا تملكين قرار أن تشتري لابنك “قطعة بسكويت”، وأبسط مقومات طفولته لا تستطيعين تأمينها له بسبب الغلاء واختفاء المواد وبُعدها بسبب الحصار؟

أن تأكلي بصمت كأنك تسرقين شيئًا، “عالهسي الهسي” وهم نيام، تأكلين فقط لأنك قد “أُنهكتِ” من الجوع. كيف تعيشين أمومتك وأنتِ تكذبين على ابنك، وتحاولين إقناعه أن “الفجل” هو “تفاح”؟

لطالما كنتُ أهوى النظافة، واليوم أخشى على ابني من الإصابة بـ “القمل”.

عندما تضرب الطيارة، يركضُ ابني الشقي الذي يحب اللعب إليَّ خائفًا فورًا، ويردد دعاءه الطفولي: “يا رب احمي بابا وماما، يا رب احمي ماما وبابا”. غريبٌ هذا التناوب بين اللعب والخوف والبكاء، يلعبون في أوقات الهدوء، ويخافون لدى اقتراب الصوت، ويبكون لدى إلقاء القذائف، ويعودون إلى اللعب من جديد في دقائق الهدوء.

لا نستطيع مغادرة الملجأ لأننا لا نعرف في أي لحظة سيقصف النظام حرستا، فالقصف شديدٌ جدًا، ومستمرٌ طيلة أوقات الليل والنهار. لا تغادر النساء الملجأ إلا لتحضير الطعام لأولادهنّ، ولذلك خسرنا أم كرم.

أم محمد جارتي، عمرها ثمانية وعشرون عامًا.

في يوم من أيام القصف الشديد، كنّا جالسين في القبو نحتضن أولادنا. نضمّهم وندعو وندعو وندعو، ونستنجد برب العالمين لحمايتنا. ضربت الطيارة في المرة الأولى بعيدًا عنّا قليلًا، وكنتُ كيفما نظرت في أنحاء القبو، أرى الأمهات يهدئنَ أولادهنّ، يدعين، يبكين. الجميع كان خائفًا بانتظار الموت. وبعد فترة من الضربة الأولى، ضرب الطيران البناء فوقنا. أتى الدفاع المدني وأخرَجَنا وأسعَفَنا.

لم يكن تمييز الأطفال ممكنًا بسبب الغبار، كان ابني بالقرب مني طيلة اليوم، ولكن بعد الضربة الأولى هدأ الضرب قليلًا وبدأ هو بالشكوى والإلحاح، كان يريد أن يلعب مع أصدقائه، ولذلك لم أجده قربي عند الضربة القريبة منّا.

كانت أمومتي هي أن أبحث عنه كالمجنونة بين الأطفال المُغبَرِّين، وأنا أصرخ: “حسام حسام حسام”. كان ممسكًا بي، ولكنني من فرط الذعر لم أستطع تمييزه. وما هي إلا دقائق، حتى أعطانا المسعف طفلًا وقال لنا: “اعتنوا بهذا الطفل فقد استشهدت أمه”.

نظرتُ إليه وعرفتُه، إنه ابن أم محمد، جارتي… جارتي التي منذ دقائق كانت تجلس معنا في القبو. كان لديها في المنزل بعض الطعام، وأرادت أن تطعم أولادها الجائعين، فأخذتهم إلى الطابق الأول ليأكلوا، وفي تلك الدقائق نزل الصاروخ في بيتها واستُشهدت.

نبكي أم محمد، ونبكي خوفًا. كان سؤالنا: هل سنكون يومًا نحن في مكانها، ويواصل أبناؤنا حياتهم بلا أمهات؟

نتجادل حول سلوكيات أبنائنا، شقاوتهم، ونفرغ غضبنا أحيانًا في بعضنا بعضًا، حنقًا، يأسًا، واختناقًا من ذلك القبو. في البداية كان يفاجئني تزاحم النساء وأطفالهن على الطعام حين يأتي إلى الملجأ، ولكنني في الأيام الأخيرة أصبحتُ تمامًا مثلهن، أو ربما أكثر، لأنني أريد ببساطة إطعام ابني.

قامت إحدى الأمهات بفتح بسطة بيع صغيرة جدًا ومتواضعة، تبيع فيها السكاكر والحلويات البسيطة كي يشعر أطفالنا أنهم أحياء. اتفقنا سويًا نحن مجموعةٌ من الصديقات أن تشتري واحدةٌ منا للأخريات “مصاصة” في كل يوم، وأنه إذا خسرنا واحدةً منا، فيجب أن نشتري كذلك العدد نفسه من “السكاكر”، إكرامًا لذكرى “روح” من تُستَشهَدُ منّا.

تحتلُ المخيلةُ سهراتنا، وهي ليست مخيلةً غريبة أو عجائبية، بل تتعلق بمحاولة تخيُّلِ أجوبةٍ على أسئلتنا: هل سنجتمع بأهالينا يومًا ما؟ هل سيرون أولادنا؟ هل سيلعب أولادنا كالأولاد الآخرين؟ هل سيعرفون الموز؟

في إحدى المرات سألتُ واحدةً من جاراتي: هل نحن أحياء فعلًا؟ هل يعرف الآخرون بوجودنا، وأننا أحياء في هذه الأقبية؟

مصادر

[عدل]