انتقل إلى المحتوى

نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – أعلنّاها ثورة حريّة

من ويكي الأخبار

الأربعاء 23 نوفمبر 2016


هذا المقال هو الجزء الرابع من مجموعة“نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري.

رغم كلّ ما مررنا به خلال أسبوع من ضربٍ و تعذيبٍ وقلع أظافر وكهرباء تسري بأجسادنا أكثر مما تسري في أكبال السجن، ما زال هناك بيننا من يقوى على الثورة ضد سجّان.

في اليوم الثامن أخرجونا، أنا وعبدالرحمن وعدّة سجناء آخرين، على باب الزنزانة. أسند المحقق أوراقاً على الحائط وهو يحمل القلم: “وقّع ع السريع”. أحاول قراءة ما أستطيع من الورقة المكتوبة بخطِّ اليد. يبدو أنه محضر تحقيق. يقاطعني ضرباً باليد وعصى حديدية. “وقّع من دون ما تقرا يا جحش، قلتلك وقّع ما قلتلك أقرا”. يكمل حديثه بالشتائم. أُوقّع. ننتهي جميعاً ويدخلنا مجدداً للزنزانة.

ننتظر. لسنا قادمين من أفغانستان، ولسنا إرهابيين، لم يعرف أحدٌ منّا كيف تُزرع عبوةٌ ناسفةٌ، ولم يعلن أي منّا أنّه جهادٌ مقدس. أعلنّاها ثورة حريّة، لم نتّهم أحداً بالكفر، ولم نحاول تطهير البشريّة. لسنا قتلة. لم نؤذ أحداً، كان ذنبنا الوحيد الذي اجتمعنا عليه هو التفكير بصوتٍ عالٍ وطرح مطالبنا بوضوح وثقة.

تمرّ الأيّام، نعتمد تقويمنا، نحفر خطّاً عامودياً على الحائط عن كلّ يومٍ يمضي. تصبح أربعة، يأتي الخامس بشكلٍ أفقي لسهولة جمعها، ودائرةً صغيرة على كل خط يخرج فيه أحد من الزنزانة، ولكنّها ليست بأفضل طرق الحساب – وهذا ما اكتشفته لاحقاً – لأشخاصٍ مثلي تنقلّوا من فرعٍ إلى فرع وتركوا خطوطهم ودماءهم تزيّن الجدران.

يأتي السجّان ويأخذ عبد الرحمن بعد إخباره بتوضيب أغراضه، يحمل عبد الرحمن وصايانا وما استطاع حفظه معها من الأرقام ليطمئن أهالينا، يذهبان معاً، وأبقى وحيداً مع سبعة وثلاثين وحيداً آخرين معي.

بعد أيّام جاء اليوم المنتظَر. يدخل السجّان في وقت التفقّد لا يذكر اسمي. “سرمد ضب أغراضك و تعا معي”. لم يقم بتغطية رأسي ولا وضع الكلبشة. سعادةٌ تكاد تنسيني الأرقام التي أوصاني بحفظها من كانوا معي. نخرج للساحة، المراسم التي استقبلونا بها يحضرونها الآن، لا بد أنها ستكون الوداع. يضعون الأمانات في أكياس، يربطوننا بجنزيرٍ طويل، أشعر بقلبي ينبض أسفل قدمي. “جنزير الشام صار جاهز، أسحبوهم ع الباب تحويلهم بعد يومين من الشرطة العسكرية” يقولها عسكري بكلّ فخر، يرتدي قبّعته الحمراء، ثم نصعد جميعاً إلى الباص. نخرج من الفرع. بيت جدّي، نمرُّ من أمامه! بعض المدن تكون حكاياتك الدرامية، تكتب مصيرك من قبل بدء التاريخ، أن يصبح منزل طفولتك والمراهقة عنواناً نازفاً للدم، موطئ تضحيتك الأول، تُثْقَلُ بالثورة في الباص. لحظاتٌ والمنزل على مرأى عيني تفصلنا أمتارٌ وحاشية طاغية. أنا ومنزلنا، ويفصلنا نظامٌ بأكمله، وكأن شاباً بلغ الرشد في ذاك العام كان سبباً لما حدث للبلاد، كانت دمعتي الأولى.

ندخل الشرطة العسكرية في دير الزور، ينزلوننا جميعاً. حديقة صغيرة في الساحة، يجلس جنبها ثمانية عساكر يحمل كلٌّ منهم كرباجه الخاصّ، إطارات من مختلف الأحجام مرميّة على الأرض. يأخذ أحدهم أوراقنا وأكياس الأمانات، ويستقبلنا من تبقى منهم. فكّوا الجنزير عنّا، كل شخصٍ منهم اختار أحدنا، اختار له الإطار المناسب، ثم “دولبونا”. هكذا سمّوا ما فعلوه بنا داخل “الدولاب”. يضع الإطار محيطاً بي، يمددني أرضاً ويشرع بالضرب حتى يرى الدماء سالت من قدمي، بشرط ألّا تكون أقل من خمس عشرة ضربة. يدخلوننا للسجن، ثلاث صالات كبيرة جداً يصل بينهم موزّع كبير، حمامٌ كبير، أصوات المساجين تعلو. بعد ساعاتٍ سيحين موعد الغداء، من منكم يريد شيئاً! نتفاجئ بأنه بإمكانك هنا الدفع للسجّان كي يجلب لك ما تريد من طعام. المال في الأمانات! ما من فائدة. يأتي الغداء بعد ساعات، سنكسر حمية البرغل والبطاطا وبقايا العظام التي كانت دجاجة، حلاوة. نتشارك الطعام مع باقي السجناء. تبدأ الزيارات. أحدهم يعرف خالي، خرج للزيارة وأخبر زوجته أن تتصل بأهلي، يتصلون، يأتيني العسكري خلال ساعة حاملاً لي ألفاً وخمسمئة ليرة وبيجاما جديدة كانت أكبر من مقاسي، أو كانت بمقاسي السابق قبل دخولي للسجن. لا مشكلة، ما يهمني أن أخفف من أحمالي وتفكيري في السجن، سأنزل حملي الأهم حالياً وأحفظ الجاكيت الأزرق بعد توضيبه جيداً في كنزتي لأرتدي البيجاما الجديدة. “هي الأغراض إلك، وأنت ممنوع من الزيارة، جابها حدا من طرفك”. لاحقاً، بعد خروجي سأكتشف أن من أتى بالأغراض هو أغيد. لم يدخله العسكري وأخذ منه ألف ليرة للسماح بتوصيل الأغراض لي. عند دخول أي زيارة يقومون بأخذ الهوية الشخصية، لو دخل أغيد لما خرجنا، كان أحد المطلوبين الذين ركّز عليهم المحقق.

نعود للداخل وأرتدي ملابسي الجديدة، نجلس في انتظار النقل، يومان، ننقل في الثالث للرقة، مفرزة الأمن العسكري. المراسم نفسها، رضعوا جميعهم النذالة من ثدي البعث. يومان آخران، إلى حلب، الشرطة العسكرية في الجميلية، كانت زيارتي الأخيرة لحلب. استراق النظر من نافذة الباص وهم يضعون رأسك بين قدميك هو أحد الأسباب المهمة لشعورك بالانتصار، تحدّث نفسك برؤية الشارع، الناس، بعد أن كنت تمنّيها ذلك لأيام. “بن اليمني” كان المحل الذي لمحته عيني قبل كل شيء، لا أزال أذكر الاسم حتى اليوم، بعد أربع سنوات.

نصل إلى مقر الشرطة العسكرية، يغطون أعيننا ويفكون الجنزير. ندخل البناء. غرفة كبيرة، يقارب عددنا الأربعين شخصاً. “الكل ع الحيطان وأشلح أنت وياه مع حركتين أمان ع السريع” يقولها بصوتٍ حاقد وهو يرفع الأغطية عن رؤوسنا. عسكريّ لا يتجاوز طوله متراً وسبعين سنتيمتراً، هزيل، يحمل عصى سوداء تكاد تكون بطول قدمه. عدنا عراة، نقف لدقائق وهو يفتّش. كانت المرّة الأولى التي نتعرض فيها لتحرّش. بدأ بتمرير العصا على المناطق الحسّاسة ومن الخلف، ولم يخل الأمر من ضرباتٍ خفيفة يحاول فيها الاستفزاز. تحرّش بالجميع، يبدو أنه كان يأخذ بثارٍ قديم. اغتصبتهم هتافاتنا سابقاً وسنحت له الفرصة الآن للثأر. يأمرنا بارتداء ملابسنا من جديد، أعاد لكل شخص منا نقوده وأخذ باقي الأمانات، وزعونا على الزنزانات، ندخل للزنزانة، دخّان وشاي، المحرّمات! تظن نفسك في حلم، لا يوقظك منه إلا طعم الشاي وسحبةٌ من سيجارة “حمراء” تعيدك للحياة من جديد. نطلب إبريق شايٍ كبير سعته خمسة ليترات رغم أننا كنا سبعة فقط، نطلب الدخان وكثيراً من الطعام. تطلب الطعام وأموراً حياتية أخرى هي من حقوقك، ثم تشكرهم على جلبها لك بنقودك وأنت في سجنهم وتتعذب! أرتدي حذاءً رياضياً، أقتنص فرصة انشغال الجميع وأرفع أرضية الحذاء لأضع تحتها سيكارة “حمراء” – أتطرّق لاحقاً لما فعلته بها.

مضى اليومان بسرعة، أخرجونا جميعاً للنقل. ذات الغرفة الكبيرة، طاهر هنا! ربطونا جميعاً في الجنزير، يتعالى صوت شجار بين أحد العساكر وطاهر. “أنا قلتولك من طول عمري شيخ ربعي ومو أنت ولا غيرك يقدر ما يخليني شيخ ربعي، بدك تفك الجنزير وتحطني أول واحد حصراً” يصرخ طاهر غير آبه بأي شيء. بعد جدالٍ عقيم يقوم العسكري بفك الجنزير ووضع طاهر أولاً ويربطه من جديد. يبدأ العقيد خلف الطاولة بختم أوراق النقل، يتقدم طاهر ماشياً بهدوء، أنظارنا تشخص لما يريد فعله، يسحب ربطة خبز من الخزانة المجاورة للعقيد، يبدأ بالتوزيع للسجناء، فيصرخ به العقيد. “يا سيدنا أنا ما أعرف الصبح إذا ما أفك ريقي بلقمتين، وحسبتو حساب يلي ياكل لحالو يغص، قلتو خلينا نوزع على هالشباب مساكين”. مهما حاول إظهار الجديّة تبقى ابتسامة طاهر على الوجه وهو يتحدث، ينهال عليه العسكري بالضرب، يسقط طاهر أرضاً، ينتظر ابتعاد العسكري، يقف بصعوبة ويجلس على الكرسي الحديدي المقابل للطاولة، يرفع العقيد نظره محاولاً ألا يغضب، يقترب العسكري بسرعة لضرب طاهر. “طيب يا سيدنا احنا مو كلنا ولاد السيد القائد، ترضاها إنو أخوك بهالوطن من السيد القائد ما يقعد ع الكرسي ويستريح شوي؟” لم يستطع العقيد كتم ضحكةٍ خرجت بالقوة وهو يسمع كلام طاهر. انتهى من ختم الأوراق، ساقونا، ننتظر باصاً في الساحة. هه، كنا ننتظر سيّارة كبيرة لنقل الخضار، نصعد في برادها الخلفي، ثلاثة وتسعون شخصاً نتكدّس مشبعين بكل معنى الكلمة. يعلمني صديقي كيف أُرخي الكلبشة لأن الطريق طويل. لا أحد يتكلم، صمتٌ وخوفٌ من القادم.

مصادر

[عدل]