سوريا: وردة حمراء
الجمعة 11 يوليو 2014
هذا المقال جزء من سلسلة خاصة من المقالات بقلم المدونة والناشطة مرسيل شحوارو، واصفة حقيقة الحياة في سوريا تحت نير الصدام المسلح بين القوات النظامية وكتائب الجيش الحر.
ربما أكون قد أغرقتكم بالتفاصيل عن خسارتي الشخصية، بعدّما حدثتكم عن “ أمي في مقالة سابقة” وحدثتكم كذلك عن القاتل الذي نشأ فيّ بعدها. لكنني اليوم لا اعتقد ممكن أن أعرفكم عمّا يحصل بسوريا دون أن أنقل لكم حقيقةً صوت الضحايا وألمهم. أخبركم اليوم عن ليلة الحادثة. كنت أسهر في بيت أحد الأصدقاء، نتداول نقاشات ثورية، حين رن هاتفي المحمول. كان صوت أختي الخائف يقول: “أمك في المشفى لقد أصابتها رصاصة”.
وبدأت الأفكار في رأسي تتدافع في تلك الدقائق القليلة ونحن في طريقنا إليها. بعض من الأسئلة التي كانت داخل رأسي كانت: هل ستنجو؟ أتراني أنا الملامة على ذاك الألم؟ هل قتلوها لأنها أمي؟ وددت لو انني أنا التي مصابة لأنجو من شعور الذنب. أتراه رصاصنا؟؟ رصاصهم؟ لست أدري حينها لم تخيلت أن الموت سيصنع فرقًا بحسب الجهة التي أصدرته. لدى وصولي إلى المشفى كان عليّ أن اتخذ قرار العملية الجراحية، وقبل أن أجيب قالوا لي يومها أنها استشهدت.
ولست أدري كيف خلعت ثوب الإنسانة سريعًا، خبأته لأوقات لاحقة، لم أبك كما اشتهيت، تشبّع ضميري بالثورة، هو صليبي الذي عليّ حمله كآلاف السوريين فمن أنا لأشتكي؟ في تلك اللحظات شعرت بأنانيتي، شعرت بشناعة الخوف التي اعتدت أن أزودها به وهي مدركة كلما ذهبت للتظاهر أنني ذاهبة لمواجهة الموت من نوع ثيابي “العملية” حينًا، من سعادتي عندما أعود، من عدم قدرتي أو رغبتي بالكذب عليها. لست أدري أين دفنت عاطفتي وبأي حزم أخذت القرار بأنني لن أصمت وأنني حتى في موتها سأكون ابنة ثورتي عصيّة على الذل وعلى الدمع حتى.
في الصباح الباكر كان عليّ التوجه للقاء الضابط المسؤول عن الضبط الأمني، كان باردًا قاتلًا كالنظام الذي أفرزه، لم يعتذر حتى، قال ببساطة لا مبالية: “خطأ فرديّ”. كآلاف الأخطاء الفردية على امتداد الوطن.
لكنه نسي، أو تناسى، أن هذا “الخطأ الفردي” كان أمًا، كان حضنًا، كان تاريخًا من الحب والعاطفة والذكريات، كان وطنًا لأسرته. ولكنهم معتادون على اغتيال الأوطان؟ فما الجديد؟
بعدها أصبحت محاطة بتنبيهات الجميع، عمّا عليّ فعله وعما ليس عليّ قوله والخوف العائلي، والخوف المجتمعي، ورغم ضخامة الخسارة، أجلس في إحدى الزوايا، أشفق على عبوديتهم في دوائر الخوف تلك. هم من كانوا يومًا أقرب الأصدقاء. أشفق على عبوديتهم وأحبهم حد اشتهائي الحرية لهم. أما أنا التي كنت أخشى يومًا إذا استشهدت من دموع أمي، قد تحررت حتى من هذا الخوف.
في رأسي كنت أردد بعض الأغاني الثورية، تلك التي لا زلت أرددها في رأسي كلما قست عليّ الحياة، أبني فقاعة لذاتي وأدخلها كلما وددت أن أتذكر من أنا فعلًا. غنيت تلك الأغنية التي اعتادت أمي أن تكرهها: “واني طالع اتظاهر ودماتي بيديا وإن جيتك يما شهيد لا تبكين عليّ” كم هي ساخرة تلك الحياة التي أدخل الموت بقدمي كل يوم، أتظاهر في اخطر الأماكن أتعرض للرصاص المباشر وأنجو أنا وترحل هي؟
يوم الجنازة كان عليّ التفكير في كل شيء، كيف تصبح الكنيسة بيتًا يحمل فخر الثوار على اختلاف انتماءاتهم وكيف تبدو الثورة عروسًا في أبهى صورها أمام من لم يقربوها بعد خوفًا من أحكامهم المسبقة بأنها ثورة المتطرفين التي لا مكان فيها للمختلفين. وهكذا اخترت الأبيض والوردة الحمراء، حيث طلبت من الثوار أن يرتدوا الأبيض خلافًا لجموع العائلة والأصدقاء من المسيحيين الذين سيتشحون بالسواد كما هي العادة في الجنازات المسيحية، وطلبت من الثوار كذلك أن يحملوا بإيديهم وردة حمراء.
هكذا يعبرون عن تعاطفهم، عن رفضهم، بطريقة يفهمها الجميع ويقدرها.
في اللحظة التي دخلت فيها باب الكنيسة، كاد أن يكسرني منظر حافلة لعناصر الأمن. لست أدري لم كانت جنازة أمي تستدعي حضورًا بالعتاد والعدّة. كاد ذلك كله أن يكسرني، لولا ذاك البياض الثوري، الذي جاء ليحتضنني. لست أدري من أين جاء كل هؤلاء وأي حب وانفتاح يحملون، حتى حملوا السلام إليّ بحضورهم. ثوار يملؤون أدراج الكنيسة بثيابهم البيضاء يرفعون وردتهم الحمراء عاليًا. هم يصرخون حرية بصمت وخشوع يليق بهم، مئات الأعين تنتظر مني إشارة علها تندلع مظاهرة، ولكنهم يحترمون حزني وقراري. لست أدري كم كان عددهم تمامًا لكنني شعرت يومها أن حلب الثائرة تنحني وتقبل جبهتي. أنها تمسح دموعي واحدة واحدة. شعرت يومها معنى أن يزور العديد من الثوار الكنيسة للمرة الأولى، فقط ليكون معي ليعبر لي عن حزنه. معنى أن تأتي فتاة ترتدي حجابًا لتجلس على مقاعد الكنيسة فلا تشعر بالغربة أو الغرابة، لأنها ليست وحيدة هناك.
شعرت ماذا يعني أن تحيل الثورة “الشعب السوري واحدًا”.
إن كان النظام قد سرق ما تبقى من عائلتي، فالثورة أعطتني عائلة تجيد الحب، بمجانية. يستطيع من شاء أن يتحدث عن الهتافات الطائفية، ويدعي حول طبيعة الصراع السوري، لكنني، وفي الصميم، أثق أن هذه الثورة أخرجتنا جميعًا من آلاف القوقعات التي اعتدنا الاختباء فيها. أن هذا الحزن قد وحدّنا وأعاد تشكيلنا وبلورتنا، مئات الورود الحمراء اقتربت مع أصحابها. وددت لو شكرت كل واحد فيهم، وددت لو قلت له كم أن الألم كان سيكون أكبر لو لم يكونو هنا، وددت لو أشم رائحة حلب الشامخة في دموعهم، وأكتب لهم هذه المقالة، أو لمن تبقى منهم اليوم على قيد الحياة فالكثيرمن هؤلاء الثوار قد استشهد دفاعًا عن الحرية.
ابتسمت لهم فخورة، بثورة أنتجت أبطالًا كهؤلاء، ابتسمت لهم محاولة قدر طاقتي إخفاء الغصة وادعاء القوة. فعلينا جميعًا أن “نشد الجرح وننتصب” فهناك ديون الشهداء في أعناقنا، هناك دين أمي، ومصطفى، ومحمود..
هناك عهد قطعناه أن “دم الشهيد مو نسيانينو”.
اقتربوا من النعش جميعهم، بذات الهدوء الجميل يضعون وردتهم على ضريحها. هتفت لها في داخلي:”يا أمي لا تهتمي، سوريا كلها أمي”. اتجهنا إلى المقبرة وهم حولي، يحملون ألمي، فيغدو أخف. بعد أن حضروا معي ساعة ونصف طقوسًا من الصلوات التي لا يفهمونها ولا يشعرون بأي ارتباط معها، شعرت أن عليهم أن يصلوا هم أيضًا بطريقتهم. طلبت منهم أن يقرؤوا لها الفاتحة، كنت أثق أن في قلب كل منهم من النقاء ما يجعل روحها تستريح.
دعوت معهم .. بلغتي ولغتهم ..
كبير دينهم عليّ، وعميق امتناني لمحبتهم، وعزيز عليّ كل دمعة ذرفوها معي. وطويل طويل الدرب الذي علينا أن نقطعه سويًا، بمن تبقى ..
مرسيل
مرسيل شحوارو مدونة وناشطة من حلب، سوريا وتغرد على Marcellita@
مصادر
[عدل]- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «سوريا: وردة حمراء». الأصوات العالمية. 11 يوليو - تموز 2014.
شارك الخبر:
|