سوريا: من البطلة إلى الضحية
الأحد 30 أغسطس 2015
“كان عليّ أن أبكي” هذا كل ما يخطر في بالي مرارًا وتكرارًا عندما أتذكر تلك الفتاة الصغيرة التي تحولت لأشلاء. لا أعرف شيئًا عنها ولا أمتلك القدرة على تقدير العمر من بقاياها لكنني أذكر أنني توقفت هناك كالمذهولة. لم أصرخ وهم يجمعونها، لم أحاول المساعدة، لم أفعل شيئًا، أي شيء.
كان جسدي ” الغبي” مصّرًا على الصمود وعلى التصرف بـ”تعقل”. من يستطيع منّا تعريف ما هو التعقل أمام جثمان طفلة؟ وصمدت. لم أثر من الدراما التي اشتهر بها بين الأصدقاء أي ردة فعل، بل حتى أن بكاءًا ما في الخلفية أزعجني فعلًا. كان عقلي يقول من يجرؤ على أن يحزن في ظرف كهذا؟ الصمود وحده قدر الباقين هناك.
كان عليّ أن أبكي يومها، ربما كنت اليوم أكثر قدرة على الصمود. هذا ما أردده مرارًا وتكرارًا كلما طاردتني تلك الفتاة في أحلامي، في لحظات فرحي، في جدالاتي مع من أحب حول المستقبل. المستقبل؟ وماذا عن مستقبلها هي؟
عام ٌ مضى منذ غادرت سوريا إلى الأبد ربما، عامٌ مضى من النكران والذنب والحزن والاستسلام. لا شيء من البطلة بقي فيّ، كل ما كان جسدي يحاول الاحتفاظ به للصمود داخل الحرب وتحت البراميل المشتعلة تركته هناك لمن علّهم يحتاجونه وانهار تمامًا تحت وطأة ما قد تكون تسميته العملية “الصدمة”.
لست أدري كم هو “مريض” أن أقول ذلك، لكني كنت بحق في حال أفضل هناك قرب الموت. كان الفرح بطوليًا وتحديًا وقحًا للموت بينما استحال الفرح هنا إلى الكثير من الذنب والتكرار الغير حقيقي للأحاديث التي كانت تهمنا مع ذات الأصدقاء الذين اعتدنا أن نعيش معهم على حافة الموت واليوم انتقلنا إلى أن نحيا النكران معهم على حافة الوطن؛ نكران أننا أصبحنا خارجه. كان الاستمرار حلاً وحيدًا، هناك في “الداخل”. كان وجودنا هناك بطوليًا ملهمًا مهماً، كل واحد فينا اعتقد أن الوطن بأكمله متكئ عليه. ورحلنا وتركنا وطننا دون متكأ. ولبسنا الدور البطولي في الخارج ولكن الثوب قد ترهل علينا بعد أن خلعنا كل جذورنا هناك بين حلب المحتلة، والبيوت المختلفة، وأصرينا على الظهور في دور البطولة! خفنا من الذين ماتوا إن قلنا أننا اليوم مجرد ضحايا.
لم أكتب شيئا ً مهما ً خلال عام كامل، شاهدت أعدادًا هائلة من المسلسلات التي لا تحتاج أدنى مقدار من التفكير! تخيلوا أنني شاهدت كل مواسم Glee؟ بشكل متواصل؟
كانت تلك البداية التي لم تنته على هذا الحال، رافقني شبح الموت طويلاً. أتخيل موت من أحب بكل الأشكال العنيفة الممكنة. أداعب شظاياه التي لازالت في جسمه من قذيفة أصابته في احتفالية رأس السنة وأتخيل لو أنني خسرته يومها! لا يكفي واقع وجوده هنا قربي لقتل إحساسي العميق بالفقدان. الحقيقة أن لا .. كان يكفي أن يبتعد إلى منزل آخر لأتخيل الأسوأ وأحيا مع هواجس القلق، كان يكفي ألا أستمع لصوت تنفسه نائمًا لأتذكّر كل الجثث التي نسيت أن تتنفس.
رافقني شبح الموت، وهوس المنتحرين والرغبة بالالتحاق بالاصدقاء الذين رحلوا! أنظر حولي إلى العديد من الأبطال في حياتي يتحولون تباعًا إلى أشباح مثقلة بالهموم. تعايشنا جميع أنواع السلوكيات التدميرية، من الإدمان على العمل أو الكحول أو أشياء أخرى، أما أنا فأدمنت على إحساس الذنب المؤلم، ونقلته مرارًا إلى جروح في اليدين لا زال آثار بعضها عالقًا فوق معصمي اليسار وأكذب كلما سألني أحدهم عنه، أكذب لأني لست اجرؤ أن أعلن أن البطلة قد رحلت، ربما دون رجعة، لتحل محلها هذه الضحية الجديدة.
تخيل لو أنك لم تعد تؤمن بأي شيء؟ لا الإنسان بطيبته أو شره؟ لا الكون بعدالته؟ الحرية قيمة تساءل نفسك يوميًا إن كانت تستحق كل هذا الدم؟ هل تمّدن العالم فعلاً؟ هل نستطيع أن نصنع التغيير؟ هل الديمقراطية التي بها نحلم “أقل أهمية” مما اعتقدنا؟ هل الشعوب فعليًا لا تستطيع التغيير ما لم يشأ الدولار ذلك؟ لا شيء كنت به تؤمن موجود قربك، لا أحد ممن اعتادوا أن يعرفوك كما أنت ما زال هنا قربك. أهلك رحلوا وكل ما حولك غريب وجديد وعليك التكيف معه بما فيه أنت؟
وترسل لي الصديقة في جلوبال فويسز، (الأصوات العالمية ) تسألني لماذا لا تكتبين؟ وأخجل أن أخبرها أنني قد تركت الكتابة أيضًا مع ما تركته هناك.
ولكن ومنذ أنني قررت أن أبحث عن المساعدة أعترف اليوم، وربما لأول مرة علنًا، أنني أتناول مضادات الاكتئاب بانتظام اليوم، أطرد الأفكار الخاصة بالموت قدر ما أمكن لسوريّ ان يفعل ذلك، أعاود التواصل مع الأصدقاء وأعتنق الضحية التي أنا هي وأشفق عليها وأحبها وأدعو لها بالصبر والقوة، وأهم من هذا كله بالمغفرة، وأحاول إعادة ترتيب أجزائي في أماكنها علّني أتذكر أين كانت أصابعي لأكتب من جديد.
مصادر
[عدل]- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «سوريا: من البطلة إلى الضحية». الأصوات العالمية. 30 أغسطس - آب 2015.
شارك الخبر:
|