سوريا: العيش مع القاتل، فينا
الخميس 26 يونيو 2014
هذا المقال جزء من سلسلة خاصة من المقالات بقلم المدونة والناشطة مرسيل شحوارو، واصفة حقيقة الحياة في سوريا تحت نير الصدام المسلح بين القوات النظامية وكتائب الجيش الحر.
في يوم اعتيادي جدًا، وأنا أتناول الغذاء مع أحد الأصدقاء في تركيا، وبعيدًاعن القصف والموت وقريبة جدًا من حدّ الاختناق بالشعور بالذنب بسبب بعدي عن مدينتي وهي تحتضر، شعور بالغرابة لأنني أتمتع بما يكفي من رفاهية الاتصالات والكهرباء، أفتح صفحتي الشخصية على فيسبوك ككل المدمنين على وسائل التواصل الاجتماعي لأرى ما كتبه لي أحد الأصدقاء المقربين من الثوار، على حائطي الشخصي، “مرسيل، حاجز شعبة الحزب بالسبع بحرات؛ طار بتفجير اليوم. بعرف انو بيعنيلك هالموضوع. عقبيل الجوية؛ بوقتا رح أحس شي قريب من شعورك هلأ.”
يعرفني هذا الصديق فعلًا، يعرف كم أكره أن يكتب اسمي بالألف فيكتبه بالشكل الصحيح. يعرف أن حاجز شعبة الحزب يعنيني بشكل شخصي لا ثوري. فهو في نهاية الأمر كان حاضرًاً في جنازة والدتي الذي قتلها رصاص عناصر هذا الحاجز ببرود، ويعرف أنني سأفهم آلامه عندما سيحدثني عن “فرع الجوية” الشهير بقتله للمتظاهرين تحت التعذيب. وأفهم أمنيته بتفجير هذا الفرع. للحظة صدمني الخبر، هكذا انتهوا تمامًا من قاموا بتغيير حياتي إلى الأبد، لم أكن أعرف تمامًا ما هو شعوري، ضائعة بالمطلق في مساحة من اللا شعور! دعوني أضعكم قليلًا في سياق المثالية التي ربيت عليها في منزلنا، كإنسانة من عائلة مسيحية مؤمنة. كنت أعتقد أن بالمحبة وحدها سنمحو آلام عالم تحتله الكراهية وتعبث بحياة البشرية. كنت أعتقد أن “الحياة” بحد ذاتها، أي حياة دون تفرقة، هي مقدسة بالمطلق ولذلك فأنا كنت ضد الاجهاض وضد الحرب وضد حكم الإعدام.
ومحمّلة بإيماني أن المسامحة قوّة، وأن المسيح الذي به أؤمن قد دعا إلى أن نغفر لمن أساء إلينا، كان التحدي الإيماني الحقيقي لي هو مسامحة هؤلاء الذين على الحاجز، أعدائي الجدد أولئك الذين قتلوأمي، وفشلت. بعد استشهاد والدتي بفترة قصيرة، بدأت مرحلة الهوس بهم وبأسمائهم “قتلة أمي”، من هم؟ ماذا يفعلون؟ من أي عائلات يأتون؟ من أي طائفة حتى؟ وبالفعل قمت بدفع رشوة إلى أحد الأشخاص فأتاني بمعلوماتهم. احتفظت بالورقة كثيرًا ودمرتها في الوقت الذي أصبح بين يديّ من القوة ما يكفي لأن أسلم أسمائهم لأحد الأشخاص المسلحين من الأصدقاء في الجيش الحر والذي قد يعمم أسمائهم ليتم القصاص منهم. دمرت معلوماتهم لأنني لم ولن استطيع أن آخذ القرار بأن يقتلوا أو أشارك حتى بقرار من هذا النوع، مجرد امتلاكي لهذه القوة يخيفني حقًا، مجرد مقدرتي أن أكون في الآن ذاته الضحية والقاضي هو امتياز أو نقمة ربما تفوق قدراتي بكثير.
كل أسبوع تقريبًا اعتدت ان أذهب إليهم، أقف بعيدًا عنهم وأحفظهم، هم بشرٌ مثلنا للأسف. يبتسمون ويتعبون ويتبادلون النكات والغضب. هم مناوبتان مختلفتان، ولفترة طويلة أردت أن أعرف من كان موجودًا في المناوبة التي قتلت أمي؟ هم يشربون الشاي مثلي كما أحبه حلوًا وخفيفًا، لأحدهم ولد صغير جاء هو وامرأة محجبة لم استطع تمييز ملامحها، هل لديه زوجة وطفل؟ هل زوجته تدرك أن زوجها قد أخذ أمي؟ أو للدقة قد قتل أمي؟ بعدها بدأت أشعر أنني لا أتذكر أمي دونهم، بدأت ملامح وجه القتلة تأخذ مكان ابتسامتها وخصل شعرها في ذاكرتي. صوت الحقد فيّ أعلى من كل ما علمتني هي، أعلى حتى من صوت ضحكتها، يومها أخذت القرار أنني لن أفكر فيهم بعد الآن.
أنا لا احقد عليهم ولكنني كذلك لا استطيع أن أسامحهم، عالقة في مسافة ما بين الألم والحقد والمغفرة. لا استطيع، ورغم أن ذلك قد يكون “محقًاً”، أن أتعامل معهم على أنهم هم كذلك ضحايا نظام الأسد الذي حوّلهم إلى قتلة. بيني وبينهم دعوى قضائية في المحاكم السورية كنت مزمعة على أنني سأقوم بإيقافها لدى سقوط الأسد كنوع من العفو الذي أعتقد أنه جزء من الحل لتعود سوريا إلى السلم. إن خبر تفجير الحاجز من قبل الجبهة الإسلامية قبل أيام، صفعني في الوجه! هل أنا سعيدة لأنهم قد ماتوا؟ هل أنا فعلًا قد تغيرت وأصبحت سعادتي تحتاج موت الآخرين؟ هل خسرت الامتياز الذي امتلكه بأن أصفح يومًاً ما عنهم؟ هل الحياة المقدسة أصبحت أقل قدسية لي؟ هل تسللت الحرب إلى مناخي النفسي بأكمله؟ لست أدري ما شعوري، لكنني أتفهم في هذه اللحظة كل أصوات الضحايا التي تعلو مطالبة بالانتقام، وأفهم كيف يغدو كل شيء بلا قيمة عندما تتعامل مع الموت بشكل شبه يومي، كيف يدفعنا التكيف إلى تقديس الموت عوضاً تقديس الحياة. ففي أيامنا المتشابهة أصبح الموت هو العادة والحياة هي الاستثناء.
يقول بيان الجبهة الإسلامية: “تشير المعلومات الأولية إلى وقوع أكثر من 50 قتيل في صفوف جنود الأسد وشبيحته “وأتساءل هل هم بين الخمسين؟ هل ماتوا فعلًا أم أنهم لا زالوا أحياء ومن ماتوا هم ربما أبرياء تمامًا إلا من وجودهم في المكان غير المناسب؟ في الوقت غير المناسب؟ أنا لا أريد الانتقام ولكن من بين الأحزان على الأبرياء والأصدقاء لا أجدّ فيّ ما يكفي لأحزن على الحجر، أو على المؤسسات في الدولة أو على القتلة. لا زلت أجهد أن أجد بعضًا من الدهشة لأحزن على الأبرياء، وأستجدي برائتي السابقة لأحزن على القاتل الذي ينشأ فيّ، فأنا التي كنت أؤمن أن السلام هو الحل نحو العالم.
استلمت هذا العام هدية عيد الميلاد مسدسًا صغيرًا من أحد الأصدقاء الخائف جدًا عليّ، في دولة ينتشر فيها السلاح في إيدي الجميع. أن يكون “السلاح” هو التعبير اليوم عن المحبة! أحزن كم أنني ضحيةُ مرتين، في المرة التي خسرت فيها أمي وفي المرة الثانية عندما خسرت كوني ضحية وأصبح القاتل الذي في داخلي ينمو وينمو وأصبحت أفرح عند قتل البعض وأشمت لدى قتل البعض الآخر، ويعتمد بقائي على قيد الحياة على موت الآخرين. هذه الفكرة التي بدأت أتعايش معها وأبررها لنفسي، القاعدة البسيطة جدًا “كي أنجو أنا عليه أن يموت هو” إن هذا النظام القاتل سينتصر حتمًا علينا “مهما كانت نتيجة التغيير السياسي في سوريا” إذا نجح في تحويلنا جميعًا إلى قتلة. مساكينٌ هم أطفالنا، سيعيشون معنا جميعًا ونحن قد تحولنا جميعًا إما إلى آلات قتل أو إلى كائنات على استعداد للتصفيق عندما تسدل الستارة وهي مملوءة بدماء الممثلين.
مرسيل شحوارو مدونة وناشطة من حلب، سوريا وتغرد على Marcellita@
مصادر
[عدل]- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «سوريا: العيش مع القاتل، فينا». الأصوات العالمية. 26 يونيو - حزيران 2014.
شارك الخبر:
|